في رؤية قد تُحدث انقلاباً في طريقة فهمنا للعمل والمعرفة، يطرح بيل غيتس، الشريك المؤسس لشركة مايكروسوفت، تصوراً لعالم بات على أعتاب تحوّل نوعي تقوده تقنيات الذكاء الاصطناعي. هذا التحول لا يقتصر على تسهيل المهام أو تسريع العمليات، بل يمتد ليعيد تعريف قطاعات كاملة كانت إلى وقت قريب حِكراً على العنصر البشري.
الذكاء الاصطناعي كطبيب ومعلّم
يتوقّع غيتس أنّ حلول الذكاء الاصطناعي محلّ الأطباء والمعلمين وغيرهم من المتخصصين أمرٌ ليس ببعيد، بل مرجّح أن يتحقق بحلول عام 2035. فبفضل التطوّر المتسارع في قدرات هذه التقنيات، ستصبح النصائح الطبية عالية الجودة والدروس التعليمية المتقدمة متاحة مجاناً للجميع، مما يُسهم في كسر احتكار المعرفة والتخصص الذي طالما شكّل عائقاً في وجه المساواة.
إنّ هذا التطور يُبشّر بعصر جديد وصفه غيتس بـ"الذكاء المجاني"، حيث تصبح المعرفة سلعة عامة، تُقدَّم على نطاق واسع ودون كلفة تُذكر، وتنتقل من أيدي النخبة إلى عامة الناس.
إعادة توزيع الفرص والمعرفة
هذا التحوّل قد يُشكّل حلاً لأزمات طالما أرّقت العالم، كالنقص الحاد في الكوادر الصحية والتعليمية، خاصة في دول الجنوب العالمي. فبدلاً من انتظار عقود لتخريج آلاف المهنيين، يمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي أن تملأ هذا الفراغ بسرعة وكفاءة، مع توفير محتوى تعليمي وتشخيصات طبية مبنية على مليارات المعطيات.
لكن في المقابل، فإن هذا الوفرة التكنولوجية تطرح تساؤلات جدّية حول مستقبل سوق العمل، ووظائف اليوم التي قد تتلاشى أو تتغيّر جذرياً.
نحو "عالم ما بعد العمل"؟
لا تقتصر رؤية غيتس على استبدال المهنيين، بل تمتد إلى إعادة النظر في جوهر العمل ذاته. فمع تزايد قدرة الآلات على أداء مهام فكرية وجسدية على حد سواء، قد نكون على مشارف مجتمع تُصبح فيه الوظيفة خياراً لا ضرورة، ويُعاد فيه توزيع الوقت نحو الراحة، والتأمل، والعلاقات الإنسانية، والإبداع.
إلّا أن هذا المستقبل المشرق لا يخلو من التحديات. إذ يخشى غيتس من آثار اقتصادية واجتماعية عميقة، تشمل اضطراب أسواق العمل، وتصاعد نسب البطالة، وتوسّع الفجوة بين الفئات القادرة على الاستفادة من الذكاء الاصطناعي وتلك التي تظلّ على هامشه.
هل ستصمد بعض الوظائف؟
رغم التفاؤل التكنولوجي، يقرّ غيتس بأن بعض الوظائف ستظل عصيّة على الأتمتة. الإبداع الفني، والعلاقات الإنسانية العميقة، والتفكير النقدي، تبقى مجالات يصعب على الذكاء الاصطناعي محاكاتها بالكامل. ولهذا، فإنّ مجالات مثل العلاج النفسي، والرعاية الاجتماعية، والفنون، قد تشهد ازدهاراً جديداً، لا سيما مع تحرّر الناس من قيود العمل الروتيني.
بين الوعود والمخاطر
في خضم هذا التحول، تبرز تحديات خطيرة: من انتشار المعلومات المضللة، إلى التحيّزات الخوارزمية، وصولاً إلى احتكار الشركات الكبرى للنفوذ الرقمي. وهنا، يبرز نداء غيتس إلى تشجيع المصادر المفتوحة، وتبنّي نماذج اقتصادية جديدة مثل الدخل الأساسي، وتخفيض ساعات العمل، لتوزيع مكاسب الثورة الرقمية بعدالة.
المفترق الحاسم
ما بين وعود "الذكاء المجاني" ومخاوف اضطراب النظام القائم، تقف البشرية أمام مفترق طرق تاريخي. فإما أن تستثمر هذا التحوّل لبناء مجتمع أكثر عدلاً ورفاهية، أو تُترك لأمواج التغيير العاتية دون بوصلة.
يبقى السؤال المطروح: هل نمتلك الشجاعة لإعادة صياغة مفاهيمنا عن العمل والمعنى والعدالة، في عالم قد لا تكون فيه الوظيفة مركز الحياة، بل أحد خياراتها؟