في جغرافيا بلاد الشام ومصر، تتكرّر أمام أعيننا أسماء قرى ومدن تبدأ بكلمة قد تثير الحيرة لدى القارئ المعاصر: "كفر".
كفر الشيخ، كفر سوسة، كفر ياسيف، كفر شمس، كفر تخاريم…
هل لهذه الكلمة علاقة بالكفر بمعناه الديني؟ ولماذا شاعت في مناطق محددة دون غيرها؟ هذا المقال يحاول أن يُجيب.
الكلمة التي جاءت من عمق التاريخ
لفظة "كفر" ليست عربية في أصلها، بل سريانية-آرامية، وكانت تُستعمل في معجمهم بمعنى "قرية" أو "تجمّع ريفي صغير".
في اللغة السريانية تُكتب ܟܦܪ وتُنطق كَفْرَ، وهو ما يشبه تماماً النطق العربي اللاحق.
وبذلك، فحين نقرأ عن "كفر تخاريم" أو "كفر زيت"، فإننا نقرأ في الحقيقة عن قرية اسمها تخاريم أو قرية تشتهر بالزيت.
كيف انتقلت إلينا؟
دخلت كلمة "كفر" إلى العربية عبر عدّة مراحل حضارية:
-
العصر الآرامي‑الروماني: حيث كانت السريانية لغة شائعة في المشرق.
-
المرحلة البيزنطية‑المسيحية: ازدادت خلالها التسميات ذات الأصل السرياني.
-
الفترة القبطية في مصر: تبنّى الأقباط الكلمة في تسمية القرى، وصارت جزءاً من اللسان الشعبي المصري.
وقد احتفظت الكلمة بمعناها الأصلي في أسماء الأماكن، رغم أن الجذر العربي "ك‑ف‑ر" صار يُستعمل دينيّاً في الإسلام للدلالة على الإنكار والجحود.
انتشارها الجغرافي
-
بلاد الشام (سوريا، لبنان، فلسطين): تشهد كثافة عالية من التسميات التي تبدأ بـ"كفر"، خاصة في المناطق التي عرفت حضوراً سريانيّاً كثيفاً.
-
مصر: تظهر الكلمة بوضوح في شمال البلاد، خاصة في الدلتا، مثل: كفر الدوار، كفر الزيات، كفر شكر.
-
البلدان المغاربية: نادراً ما نجد هذه التسمية، نظراً لضعف التأثير السرياني فيها.
أمثلة توضيحية
-
كفر سوسة (دمشق): كانت في الأصل ضيعة صغيرة خارج سور المدينة، وتحولت اليوم إلى حيّ راقٍ.
-
كفر الشيخ (مصر): قرية نُسبت إلى شيخ صوفي مشهور دُفن فيها.
-
كفر كنا (فلسطين): يُعتقد أنها الموضع الذي جرت فيه معجزة "قانا الجليل" في التقليد المسيحي.
تصحيح مفهوم شائع
من الأخطاء الشائعة الاعتقاد أن "كفر" في أسماء القرى تعني "الإنكار بالدين"، وهذا غير صحيح إطلاقاً في السياق الجغرافي.
فـ"كفر" هنا ليست أكثر من بقايا لغوية من حضاراتٍ عاشت قبلنا، وظلّت كلماتها تتردّد على ألسنتنا ونحن لا نشعر.
أسماء تحكي التاريخ
إن أسماء الأماكن ليست مجرّد رموز، بل هي شهادات على طبقاتٍ من اللغة والتاريخ والثقافة.
حين نمرّ اليوم بقرية اسمها "كفر..." فإننا في الحقيقة نعبر فوق صفحة من التاريخ اللغوي السرياني أو القبطي، ونستحضر زمناً كان فيه لهذه الأرض لسانٌ آخر.
خاتمة
ربما لا نستطيع دائماً فهم كل ما تحكيه أسماء القرى، ولكننا نستطيع أن نُعيد لها شيئاً من احترامها وعمقها.
فلننظر إلى الخرائط من جديد، لا كمجرّد خطوط، بل كصفحات تاريخية حيّة، تروي لنا كيف تكوّنت هويتنا... حتى في أبسط التفاصيل: اسم المكان.