بصرى الشام من أعمدة الرومان إلى قلاع التاريخ
2025-05-04

ترجمة

 

تقع بصرى الشام في محافظة درعا جنوب سوريا على مسافة 40 كم من مركز المحافظة، ومسافة 140 كم عن دمشق، وتُعد واحدة من أقدم وأهم المدن في تاريخ المشرق العربي، لما امتازت به من موقع استراتيجي وتاريخ زاخر بالأحداث والحضارات، من العصر النبطي والروماني إلى العهد الإسلامي الزاهر. وهي مسجلة منذ العام 1980 على لوائح منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونيسكو" (UNESCO) بوصفها أحد المواقع التراثية العالمية. يُعد المدرج الروماني وسرير بنت الملك والقلعة الأيوبية الأثرية، فضلاً عن الجوامع والكنائس والأديرة، أبرز المعالم الأثرية في بصرى الشام.

ويصنف مسرح بصرى الأثري، ومعه مسرح "Aspendus" في تركيا، من بين أفضل المسارح التي ما زالت ماثلة للعيان في العمارة الرومانية بأكملها، ويعد أضخم مسرح لا يزال سليماً بالكامل، فهو مطوق بشكل متلاصق بكتلة معمارية ثانية هي "القلعة الأثرية" التي شَكّل اندماجها المعماري مع كتلة المسرح بناء واحداً ذا دعم وتحصين قوي حوّل المسرح الروماني إلى ما يشبه المعقل، وربما كان هذا واحداً من الأسباب التي جعلت المسرح يصمد على مر الزمن، إضافة لكونه مشيداً من الحجر البازلتي المحلي (حجر بركاني أسود)، وهو حجر مضغوط غير مسامي، أكسب البناء صلابة تحدّت الزلازل والعوامل الطبيعية، كما أكسبه ميزة إكسائية مختلفة عن مسارح روما التي شيدت معظمها من الحجارة الرملية المغطاة بالجص الأبيض.

 

الحقبة الرومانية: مدينة مزدهرة على أطراف الإمبراطورية

شهدت بصرى تحوّلاً كبيراً في القرن الثاني الميلادي عندما ضمها الإمبراطور تراجان إلى الإمبراطورية الرومانية عام 106 م، بعد القضاء على المملكة النبطية. أصبحت عاصمة للولاية العربية الرومانية (Arabia Petraea) ومقراً للفيلق الثالث الروماني، ما جعلها قاعدة عسكرية مهمة لحماية حدود الإمبراطورية الشرقية.

ومن أبرز معالم تلك الحقبة المدرج الروماني الشهير في بصرى، الذي بدأ بناؤه في أوائل القرن الثاني الميلادي، ورجّح المؤرخون اكتماله حوالي العام 115 م. يتميّز هذا المسرح ببنائه من الحجارة البازلتية السوداء ويتّسع لأكثر من 15,000 متفرج، وهو واحد من أضخم وأفضل المدرجات الرومانية حفظاً في العالم.

كما تضم المدينة شبكة من الحمامات العامة الرومانية، التي بُنيت وفق طراز متقدم يتضمن غرف البخار والمياه الباردة والحارة، بالإضافة إلى قنوات مائية هندسية معقدة كانت تنقل المياه من الينابيع والآبار إلى أنحاء المدينة. ولا تزال آثار هذه الأقنية والحمامات ماثلة إلى اليوم، شاهدة على رقي الحضارة الرومانية في مجال البنى التحتية.

 

لكن لماذا إختار الرومان هذه المدينة ليقيموا فيها؟

سكن الرومان في بصرى الشام لأسباب متعددة منها:

1. الموقع الجغرافي الاستراتيجي:
حيث تقع بصرى على مفترق طرق هام يربط بين دمشق والجزيرة العربية، وبين البحر المتوسط وبلاد الرافدين.
كما كانت إحدى المحطات المهمة على طريق الحج والتجارة النبطية القديمة.
2. مركز إداري وعسكري:
بعد ضمّ الأنباط عام 106 م، جعلها الإمبراطور تراجان عاصمة الولاية العربية الرومانية (Arabia Petraea). أصبحت مقراً للفيلق الثالث الروماني (Legio III Cyrenaica)، مما عزز مكانتها العسكرية في حماية حدود الإمبراطورية الشرقية.
3. ازدهار اقتصادي وتجاري:
شكّلت بصرى مركزاً تجارياً مزدهراً نظراً لمرور القوافل بها. واستفادت من الضرائب والجمارك على السلع المتبادلة بين الشام والجزيرة واليمن ومصر.
4. أهمية دينية:
في العصر البيزنطي أصبحت بصرى مركزاً مهماً للمسيحية، وبُنيت فيها الكنائس وأصبحت مقراً لأسقفية بصرى.
5. الوفرة الزراعية والمائية:
تقع بصرى على أطراف اللجاة البركانية، وهي أرض خصبة صالحة للزراعة، ما جعلها مثالية لزراعة القمح والشعير والزيتون والعنب، وهي محاصيل أساسية في الغذاء الروماني. كذلك كانت تتمتع بوفرة المياه، حيث استفاد الرومان من الينابيع والآبار الطبيعية، وأنشأوا شبكات من القنوات المائية لجلب الماء من مناطق مرتفعة وتحقيق توزيع متوازن داخل المدينة، وهو ما يظهر في آثار الأقنية حتى اليوم. كذلك توفر المراعي الطبيعية التي أحاطت بها أراضٍ رعوية واسعة مناسبة لتربية المواشي والخيول، ما ساعد على استقرار السكان ودعم النشاط العسكري والتجاري.

 

 

أبواب بصرى التاريخية 

أحاط الرومان المدينة بأسوار حجرية قوية، تتخللها عدة أبواب مشهورة، منها:

  • باب الهوى: ويُعد من أشهر أبواب المدينة، ويمتاز بجمال طرازه المعماري وواجهته الدفاعية.

  • باب النبي: وارتبط لاحقاً بالمرور التقليدي للقوافل، وتحوّل إلى معلم تاريخي هام.

  • باب السرايا وباب العين: من الأبواب الأخرى المعروفة التي كانت تؤدي إلى أحياء وأسواق المدينة المختلفة.

هذه الأبواب لم تكن مجرد مداخل بل كانت نقاط مراقبة وأمن وتنظيم لحركة التجارة والدخول إلى المدينة.

 

 

 

 

 

بحيرا الراهب واللقاء التاريخي مع النبي محمد ﷺ 

ترتبط بصرى الشام بحدث تاريخي وروحي بارز، إذ يُروى أن النبي محمد ﷺ زارها في صباه أثناء رحلة تجارية مع عمه أبي طالب (إيلاف قريش)، وهناك التقى بحيرا الراهب، وهو عالم نصراني معروف بتقواه وعلمه في الإنجيل وله كنيسة الراهب بحيرا البيزنطية هناك.

ويقال إن بحيرا رأى في محمد علامات النبوة، وطلب من عمّه أن يحميه ويعيده إلى مكة، خوفاً عليه من أذى اليهود أو الرومان، مما يضفي على المدينة بُعداً روحياً يجعلها ذات مكانة في ذاكرة التاريخ الإسلامي.

 

الفتح الإسلامي لبصرى

في عهد الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أرسل خالد بن الوليد وجيش المسلمين إلى الشام، وكانت بصرى أول مدينة شامية تفتح أبوابها للمسلمين عام 13 هـ / 634 م، دون قتال يُذكر، بعد أن شعر أهلها بأن الفاتحين جاءوا بعدل الإسلام وسماحته.

بعد الفتح، تحولت بصرى إلى مركز إداري وعسكري هام، وأُقيمت فيها المساجد (المسجد العمري ببصرى)، واحتُفظ بكثير من منشآتها الرومانية التي أعاد المسلمون توظيفها في خدمة المجتمع الجديد.

 

 

 

القلعة الإسلامية وتطورها الدفاعي

في العهد الأيوبي، وتحديداً في القرن الثاني عشر الميلادي، أُقيمت قلعة بصرى على أنقاض المسرح الروماني، حيث تم تحصين المدرج وإحاطته بعشرة أبراج دفاعية، لتتحوّل إلى قلعة ضخمة ذات طابع دفاعي بارز. وقد استُخدمت القلعة في العصور اللاحقة كمركز عسكري ومخزن للذخيرة، وظلت شاهدة على تقلبات الزمن وتتابع الحضارات.

 

سرير بنت الملك: بين الأسطورة والتاريخ 

من المعالم المثيرة في بصرى ما يُعرف بـ "سرير بنت الملك"، وهو بناء أثري حجري يقع في طرف المدينة ويشبه في تصميمه السرير الملكي. تدور حوله قصة شعبية تقول إن ابنة أحد الملوك تحصّنت فيه بعد رفضها الزواج ممن لا ترغب، وبقيت فيه حتى وافتها المنية، وأصبح رمزاً للعفة والكرامة في الموروث المحلي. ورغم عدم وجود دليل أثري صريح يؤكد تفاصيل القصة، فإن البناء قائم إلى اليوم، يثير الخيال والأساطير في آنٍ معاً. 

 

بصرى اليوم: متحف مفتوح للتاريخ

تُعد بصرى اليوم مدينة أثرية فريدة، حيث تتداخل آثار الرومان والبيزنطيين والمسلمين في مشهد معمارٍ لا يُنسى. وقد أُدرجت على قائمة التراث العالمي لليونسكو منذ عام 1980م، لما تحتويه من كنوز معمارية وثقافية وروحية.

 

   
   
2025-05-04  


لا يوجد تعليقات
الاسم:
البريد الالكتروني:
التعليق:
500حرف