الخُنفُشارية: حين يُكشَف الجهل بثوب الثقة
2025-06-01

ترجمة

 

في عالم اللغة والمعرفة، لا تندر القصص التي تكشف زيف المتعالمين، ولا تغيب الأمثلة التي تُبيّن كيف يمكن للثقة المزيّفة أن تخدع السامعين. ومن أبرز هذه القصص تلك التي ارتبطت بكلمة لا وجود لها في كتب اللغة، لكنها خُلّدت في الذاكرة الثقافية العربية كمثال على الادّعاء الجاهل. إنها قصة الخُنفُشار.

 

أصل القصة: مكيدة لكشف الكذاب

يروي بعض اللغويين والمثقفين – ومنهم الأب أنستاس الكرملي – أن مجموعة من الأدباء أرادوا اختبار رجل اشتهر بالكذب والتزييف في المجالس العلمية، فابتكروا حيلة لكشفه. تواطأوا على أن يختار كلٌّ منهم حرفاً من الحروف الهجائية، ثم جمعوا الحروف المختارة لتكوّن كلمة لا أصل لها: "الخُنفُشار".

ثم سألوه باهتمام مفتعل:

"يا فلان، ما معنى الخُنفُشار؟"

فأجاب بكل ثقةٍ وثبات:

"الخُنفُشار نباتٌ ينبت بأرض اليمن، تأكله الإبل فتصبح قويةً، ويزداد لبنها. وقد قال فيه الشاعر:

لقد أكلتْ خُنفُشارَ قومٌ فاغتنوا
فكلُّهمُ في الحربِ صارَ كليثِها"

حينها، لم يبقَ للضحك أن يُكتم، إذ انكشفت الكذبة، وسقط القناع. وهكذا، صارت الخُنفُشار رمزاً لكلّ من يتحدث فيما لا يعلم، مدّعياً علماً لا يملكه.

 


من هو الخُنفُشاري؟

الخُنفُشاري ليس شخصاً واحداً، بل هو صورة متكررة في التاريخ والثقافة: المدّعي العليم، الذي يتحدث بثقة في موضوع لا يُتقنه، مُخترعاً معلومات أو ألفاظاً ليغطي جهله. وهو، وإن بدت قصته طريفة، إلا أن أثره عميق في تضليل الناس والتأثير في آرائهم، خاصة حين تكون الثقة الظاهرة بديلاً عن الدليل.

 


الخُنفُشارية في عصرنا الرقمي

لم تمت الخُنفُشارية، بل ربما ازدهرت اليوم بأشكال جديدة:

  • خبير وهمي في الاقتصاد أو الصحة يُطلق "نظريات" غير مدعومة بأي دليل.

  • مؤثر رقمي يتحدث في كل شيء بثقة زائفة.

  • محلل سياسي أو اجتماعي يبني تحليلاته على "مصادر خاصة"، لا وجود لها.

في زمن السرعة الرقمية، أصبح الكذب المقنّع بالبلاغة خطراً مضاعفاً، إذ يسهل ترويجه وانتشاره، بينما يصعب على المتلقي العادي كشفه دون أدوات فكرية نقدية.

 


لماذا نقع في فخ الخُنفُشارية؟

تميل النفس البشرية إلى تصديق الواثق، حتى لو افتقد الأدلة. فالثقة توهم بالسيطرة والمعرفة، بينما الاعتراف بالجهل يُساء فهمه على أنه ضعف. ومن هنا، يكون الخُنفُشاري مقنعاً ظاهرياً، وإن كان فارغاً من الداخل.

 


العبرة: لا تكن خُنفُشارياً… ولا تابعاً له

قصة الخُنفُشار تفتح باباً لتأملات عميقة في طبيعة المعرفة والخداع الثقافي، وتدعونا إلى:

  • التحقق من المعلومات قبل تصديقها أو إعادة نشرها.

  • رفض منطق الادّعاء والثرثرة باسم "الثقافة".

  • احترام التواضع العلمي، والاعتراف بالحدود المعرفية للإنسان.

 


خاتمة

ربما لم تكن "الخُنفُشار" موجودة في معاجم اللغة، لكن وجودها في الواقع الثقافي والرقمي بات مؤكداً. في زمن تضخّم الأصوات وضعف المحتوى، تبقى هذه الحكاية ترنيمة للعقل النقدي، ودعوةً إلى أن نكون حراساً للفكر، لا أتباعاً للمتفذلكين.

 

 

   
   
2025-06-01  


لا يوجد تعليقات
الاسم:
البريد الالكتروني:
التعليق:
500حرف