هل تساءلت يوماً لماذا تشتهي نوعاً معيناً من القهوة دون غيره؟
أو لماذا تشتري منتجاً لأنك "تشعر" أنه يجعلك مميزاً، لا لأنه الأفضل؟
أو لماذا يدخن الناس، أو يصدقون بعض الحملات الإعلامية، أو حتى يختارون مرشحاً سياسياً دون وعي؟
قد لا تعرف اسمه... لكن رجلاً يُدعى "إدوارد بيرنيز" هو من وضع الأسس لما يحدث في عقلك الآن.
عبقري الظلّ: من هو بيرنيز؟
إدوارد بيرنيز (Edward Bernays) هو أحد الشخصيات المحورية في القرن العشرين، ويُعتبر الأب المؤسس لفن العلاقات العامة (Public Relations) الحديثة. وُلد عام 1891 في فيينا (الإمبراطورية النمساوية)، وتوفي عام 1995 في الولايات المتحدة عن عمر ناهز 103 أعوام.
وكان إدوارد ابن شقيق عالم النفس الشهير"سيغموند فرويد". لكن بدلاً من استخدام علم النفس لعلاج الأفراد، استخدمه لمعالجة... الجماهير.
بيرنيز لم يكن مجرد مختص بالعلاقات العامة. بل كان أول من أدرك أن الجماهير لا تتحرّك بالعقل والمنطق، بل بالعاطفة والدوافع الخفية. لذا بدأ بتصميم حملات تستهدف "اللاوعي" الجماعي، لتوجيه القرارات والتفضيلات والسلوك.
أطلق على أسلوبه اسم "هندسة الموافقة" (engineering of consent) أي صناعة الرضى لدى الجماهير
كيف أقنع النساء بالتدخين؟ 
في عشرينيات القرن الماضي، كانت النساء في أمريكا لا يدخنّ علناً. أرادت شركات التبغ تغيير ذلك. وهنا جاء بيرنيز، الذي لم يضع إعلاناً بسيطاً يقول "اشترِ السجائر"، بل خطط لمشهد رمزي.
في عرض عام، سار موكب من الشابات في الشوارع، وهنّ يشعلن السجائر في مشهد صاخب تحت عدسات الصحف. أطلق على السجائر اسم "مشاعل الحرية" (Torches of Freedom).
النتيجة؟ لم يعد التدخين مجرّد عادة، بل أصبح رمزاً للتحرر النسوي.
وسجائر النساء بدأت تُباع بالملايين.
الدعاية... فن نبيل أم تلاعب خفي؟
ألف بيرنيز كتابه الشهير "الدعاية" (Propaganda) عام 1928، ليشرح فيه فكرته الثورية:
"التلاعب الواعي والمنهجي بالرأي العام هو أداة ضرورية في المجتمع الديمقراطي".
نعم، لم يكن يخجل من استخدام كلمة "تلاعب". بل كان يراها ضرورية، ما دام الهدف هو تنظيم المجتمع وتوجيهه نحو ما هو "أفضل" حسب رأيه.
من الإعلانات إلى السياسة... بيرنيز يغيّر وجه العالم
في عام 1954، ساهم إدوارد بيرنيز في تسويق أحد أكثر الانقلابات إثارةً للجدل في أمريكا اللاتينية — انقلاب غواتيمالا أو انقلاب الموز.
الرئيس المنتَخب "جاكوبو آربينز" قرر توزيع الأراضي الزراعية الكبيرة على الفلاحين، وكان من بينها أراضٍ تملكها شركة أمريكية عملاقة تُدعى شركة الفواكه المتحدة، والتي كانت تهيمن على تجارة الموز في البلاد.
شعرت الشركة بالتهديد، فلجأت إلى بيرنيز.
فببراعة غير مسبوقة، أطلق بيرنيز حملة دعائية ضخمة أقنعت الرأي العام الأمريكي بأن آربينز شيوعي يشكل خطراً على المنطقة. ونجح في خلق مبرر سياسي لتدخل وكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA)، التي نظّمت انقلاباً عسكرياً أطاح بالحكومة المنتخبة.
وهكذا، أصبح "الموز" سبباً في تغيير نظام حكم، بفضل عبقرية رجل واحد في توجيه العقول. أصبح ما حدث رمزاً لما يُعرف اليوم باسم "جمهوريات الموز" (Banana Republics)، وهي دول تُستغل مواردها من قبل شركات أجنبية، وتُحكم بأنظمة مدعومة خارجياً لحماية مصالح تلك الشركات.
كيف أثر في حياتنا اليومية؟
كل إعلان تراه اليوم، كل حملة سياسية، كل منتج يُروّج له ليس فقط بناءً على فوائده، بل على شعورك تجاهه — يعود بطريقة أو بأخرى إلى بيرنيز.
من "معجون الأسنان الذي يمنحك ثقة"،
إلى "السيارة التي تعبّر عن نجاحك"،
إلى "الزعيم الذي يفهمك"...
كل هذا لم يأتِ صدفة.
هل نحن أحرار في قراراتنا؟ أم مجرّد أهداف لحملات مدروسة؟
هذا هو السؤال الذي يطرحه إرث بيرنيز.
لقد فتح أعيننا على حقيقة صادمة: قراراتنا ليست دائماً قراراتنا. بل نتيجة عمل طويل في الكواليس، يستهدف أعماقنا النفسية والعاطفية.
الختام: لماذا يجب أن نعرف بيرنيز؟
ليس لأنه شخصية مشهورة. بل لأنه أعاد تعريف معنى الحرية في عصر الإعلام.
أن تعرفه، يعني أن تفهم كيف تُبنى رغباتك، وكيف تُصاغ قناعاتك، بل وكيف تُشكَّل صورتك عن نفسك والعالم.
لذلك حين تنظر اليوم إلى إعلان بسيط أو حملة سياسية، تذكّر أن وراءها ربما يقف امتدادٌ فكري لرجل اسمه إدوارد بيرنيز... الذي علّم العالم كيف يُصنع الرأي العام، وكيف تُباع الأحلام، وتُزرع القناعات، وتُغيَّر الأنظمة — أحياناً... من أجل موزة.