حين صار الإنسان يعيش في عيون الآخرين
2025-11-20

ترجمة

 

في عالم يختزل الوجود بالظهور، وتحكمه أعين الآخرين أكثر من حكم الذات، يطرح هذا المقال تساؤلاً أساسياً: كيف تحوّل الجسد من لغة صامتة للهوية إلى مرآة تُعرض فيها الذات؟ رحلة بين النفس والمجتمع، بين الخصوصية والاعتراف، تبحث عن معنى الوجود في زمن الصورة.

 


الجسد بين الوجود والانعكاس

لم يكن الجسد يوماً خطيئةً ولا مشكلة، بل كان أوّلَ وسيلةٍ عبّر بها الإنسان عن ذاته.
هو اللغة التي سبقت الكلام، والهوية التي سكنت الصمت.
به أشار الإنسان الأول إلى قوته، وإلى انتمائه، وإلى حضوره في هذا العالم.
لكن العالم تغيّر، وتغيّر معه معنى الجسد.

 


من الرمز إلى العرض

لقد كان الجسد في الماضي رمزاً للكينونة الخاصة، وعلامة على التفرّد والخصوصية.
أما اليوم، فقد تحوّل شيئاً فشيئاً إلى وسيلة للوجود الاجتماعي، إلى شاشةٍ تُعرَض عليها الذات لتُرى، لا لتُفهم.
صار الجسد مرآةً لفراغٍ داخلي أكثر منه دليلاً على امتلاءٍ إنساني.
فمن لا يجد صوته في الداخل، يبحث عن صداه في الخارج، ومن لا يشعر بوجوده بين أفكاره، يحاول إثباته في عيون الآخرين.

 


ثقافة الصورة وهشاشة الهوية

إنّ ثقافة الصورة التي نعيشها اليوم لم تكتفِ بتغيير نظرتنا إلى الجمال، بل أعادت تشكيل مفهوم “القيمة” نفسه.
فقد أصبح الإنسان يقيس مكانته بعدد المتابعين، لا بعمق الأفكار، وبعدد الإعجابات، لا بصفاء النية.
حتى صار “الظهور” بديلاً عن “الوجود”، و“التفاعل” بديلاً عن “العلاقة”.

وليس الاستعراض حكراً على النساء كما يظنّ البعض، بل هو سلوكٌ إنساني عام، اتخذ صوراً متعددة: من عرض الجسد، إلى عرض الثروة، إلى عرض المعاناة أحياناً.
كلها محاولاتٌ مختلفة للإجابة عن سؤال واحد: هل يراني أحد؟

 


الاعتراف والفراغ الداخلي

تُظهر الدراسات النفسية الحديثة أن الإنسان حين يشعر بالفراغ العاطفي أو فقدان المعنى، يبحث عن “الاعتراف” Recognition بوصفه طوق نجاة.
فالنظرة، والإعجاب، والمقارنة، تصبح وقوداً مؤقتاً يغذّي صورة الذات المتداعية.
لكن هذا الوقود يحترق سريعاً، فيحتاج صاحبه إلى جرعةٍ جديدة من الانبهار كل يوم، حتى تتحول حياته إلى سباقٍ مستمر لإثبات الوجود.

 


الجمال الحقيقي والسكينة الداخلية

أما الجمال الحقيقي، فلا يحتاج إلى جمهور.
هو صامتٌ بطبيعته، لأن مصدره الداخل لا الخارج.
الإنسان الذي يعرف من يكون لا يستعرض ذاته، بل يعيشها.
لا يعرض جسده ليُرى، بل يعتني به لأنه موطن روحه.
فالقيمة لا تُقاس بكمية من يراها، بل بعمق من يَفهمها.

 


الوعي فوق الصورة

نحن في عصرٍ باتت فيه الهواتف مرايا جديدة، والصفحات نوافذ على الذات.
لكن أخطر ما يمكن أن نخسره ليس الخصوصية، بل القدرة على أن نرى أنفسنا دون وسيط.
حينها فقط نفهم أن الجسد ليس إعلاناً، بل رسالة.
وليس وسيلةً للانتصار، بل وعاءً للحضور الإنساني الأصيل.

 

 

   
   
2025-11-20  


لا يوجد تعليقات
الاسم:
البريد الالكتروني:
التعليق:
500حرف