كيف صُنع البارود؟ من شرارة العلم الأولى إلى ثورة السلاح
2025-12-07

ترجمة

 

 

قلّ أن يوجد اكتشاف غيّر وجه التاريخ كما فعل البارود. فمن مجرد خليط بسيط مزجه الخيميائيون الصينيون قبل أكثر من ألف عام، وُلِدت تقنيةٌ قلبت موازين القوى، وفتحت الباب لظهور الأسلحة النارية والمدافع، ثم قادت لاحقاً إلى ابتكار المتفجرات الحديثة التي تُشكّل جوهر القوة العسكرية اليوم.

هذا المقال يقدّم رحلة شاملة من كيفية صناعة البارود التقليدي إلى تطوّر تركيبته وتحوله إلى مواد أكثر قوة وأماناً عبر العصور.

 


أولاً: المكوّنات الأساسية للبارود التقليدي

يعتمد ما يُعرف بالبارود الأسود على ثلاثة مكوّنات طبيعية بسيطة، غير أنّ تفاعلها السريع هو ما يمنحه تلك القوة الفريدة:

  1. نترات البوتاسيوم (ملح البارود)
    المزوّد الرئيس للأكسجين أثناء الاحتراق.
    كان يُستخلص تاريخياً من التربة الغنية بفضلات الحيوانات عبر نقعها وترشيحها ثم تبخير الماء.

  2. الكبريت
    عنصر يخفّض درجة حرارة الاشتعال ويساعد على بدء التفاعل بسرعة.
    مصدره الأساس المناجم والبراكين.

  3. الفحم النباتي
    الوقود الذي يحترق بسرعة، ويُحضَّر من حرق الخشب ببطء في بيئة قليلة الأكسجين.

هذا الثلاثي البسيط كان مفتاح ولادة السلاح الناري.

 


ثانياً: كيف كان يُصنَع البارود في العصور القديمة؟

رغم بساطة مواده، فإن تصنيع البارود كان يتطلّب دقة شديدة بسبب قابليته العالية للاشتعال.

1. طحن المواد وتنقيتها

كانت كل مادة تُطحن منفردة حتى تصبح مسحوقاً ناعماً جداً لضمان احتراق متجانس.

2. المزج الحذر

يُخلط الفحم مع الكبريت أولاً، ثم تُضاف نترات البوتاسيوم.
كان المزج يتم بأدوات خشبية لتجنّب الشرر، وببطء كبير بسبب خطورة الخليط.

3. الترطيب والضغط

يُضاف قليل من الماء أو الخل لترطيب المسحوق، ثم يُضغط ليصبح كتلة متماسكة تُترك لتجف.

4. التكسير والغربلة

بعد الجفاف، تُكسّر الكتل إلى حبيبات مختلفة الأحجام:

  • الصغيرة للأسلحة الخفيفة

  • الكبيرة للمدافع

 


ثالثاً: هل بقي البارود كما هو؟ رحلة التطوير الكبرى

1. تحسين البارود الأسود نفسه

مع مرور الزمن، ليس الخليط وحده الذي تطوّر، بل أيضاً طريقة التحضير:

  • رفع نقاء المواد، خصوصاً الفحم ونترات البوتاسيوم.

  • استقرار النسب إلى التركيبة القياسية:
    75% نترات بوتاسيوم – 15% فحم – 10% كبريت.

  • تطوير أشكال الحبيبات لضبط سرعة الاحتراق بدقّة.

هذه التحسينات جعلت البارود أكثر ثباتاً وفعالية، لكنه ظل ينتج دخاناً كثيفاً ويحتاج إلى تنظيف متكرر للأسلحة.

 


رابعاً: البارود الخالي من الدخان… ثورة القرن التاسع عشر

مع أواخر القرن التاسع عشر، حدث التحوّل الأكبر في عالم السلاح عندما ظهر البارود الخالي من الدخان (Smokeless Powder)، وهو مادة جديدة كلياً تعتمد على النيتروسليلوز بدلاً من الفحم والكبريت.

أبرز ميزاته:

  • دخان شبه معدوم

  • طاقة أكبر

  • استقرار أعلى

  • أداء أفضل في الأسلحة الحديثة

وتفرّع إلى ثلاثة أنواع رئيسة:

  1. أحادي الأساس (نيتروسليلوز فقط)

  2. ثنائي الأساس (نيتروسليلوز + نيتروغليسرين)

  3. ثلاثي الأساس (إضافة نيتروغوانيدين، المستخدم في المدفعية الثقيلة)

مع هذا الابتكار، انتهى عملياً عصر البارود الأسود في الجيوش.

 


خامساً: المتفجرات الحديثة… ما بعد البارود

ابتكار البارود كان مجرد بداية. فقد أدّت الثورة الكيميائية لاحقاً إلى تطوير مواد شديدة القوة مثل:

  • TNT

  • RDX

  • PETN

  • C-4 بأنواعه

  • المتفجرات البلاستيكية الأخرى

هذه المواد ليست “باروداً” بالمعنى التقليدي، لكنها الامتداد الطبيعي لمسار تطور المتفجرات التي غيّرت طبيعة الحروب والصناعة العسكرية.

 


من الصين إلى العالم: رحلة انتشار وتأثير

انتقل البارود من الصين إلى العالم الإسلامي في القرن الثالث عشر، ثم إلى أوروبا، قبل أن يغدو العنصر الأهم في بناء الجيوش الحديثة.
ومع أنّ دوره العسكري تقلّص اليوم، إلا أنّه لا يزال مستخدماً في:

  • الألعاب النارية

  • الأسلحة التراثية

  • العروض التاريخية

  • بعض التطبيقات الصناعية

 


خاتمة

البارود مثال حيّ على كيف يمكن لاكتشاف بسيط، مكوّن من ثلاثة عناصر طبيعية، أن يغيّر مسار التاريخ البشري. إنه قصة تفاعل بين العلم والحرب، وبين التجربة البدائية والتقدم الصناعي. ومنه انطلقت رحلة طويلة قادت إلى المتفجرات الحديثة التي تُشكّل جانباً جوهرياً من عالمنا اليوم.

 

 

 

   
   
2025-12-07  


لا يوجد تعليقات
الاسم:
البريد الالكتروني:
التعليق:
500حرف