مرحباً بك في مجلة العلوم والتكنولوجيا
نقدم لك رحلة فريدة إلى عالم الاكتشافات العلمية والابتكار التكنولوجي

نحن ملتزمون بتقديم محتوى جذاب ومثير يستكشف أحدث اكتشافات العلوم وتطورات التكنولوجيا. من خلال مقالاتنا، نهدف إلى تحفيز شغف التعلم وتوفير منصة لتبادل المعرفة. انضم إلينا في مهمتنا لفك رموز العلوم، واكتشاف عجائب التكنولوجيا، والمساهمة في مستقبل لا حدود له للابتكار.

heroImg



«الصرخة»: القلق الوجودي للإنسان الحديث.. قصة اللوحة الأشهر بعد الموناليزا
2017-11-19

ترجمة

لماذا أصبح بورتريه الذعر الوجودي الذي رسمه إدفارد مونش ثاني أشهر لوحة في تاريخ الفن؟

يقول شاكر عبد الحميد في كتابه الفن والغرابة: «من بين كل الفنانين الذين عبروا عن معاناتهم بالصراخ كان «إدفارد مونش» 1863-1944 الذي أنتج صورة واحدة شهيرة اخترقت الطبيعة كلها، ونفذت إلى قلبها من خلال صرخة مفاجئة تتردد أصداؤها في الأفق ولا يمكن مقاومة الإحساس بالفزع واليأس الذي تحمله، حيث يسهم كل عنصر في التكوين في خلق الحالة الانفعالية».

لوحة الصرخة الشهيرة لإدفارد مونش التي رسمها عام 1893، قد وُجِّهت لتصوير ذلك الألم الخاص بالحياة الحديثة، وقد أصبحت أيقونة دالة على العُصاب والخوف الإنسانيّ. في اللوحة الأصلية تخلق السماء الحمراء شعوراً كليّاً بالقلق والخوف وتكون الشخصية المحورية فيها أشبه بالتجسيد الشبحيّ للقلق.

في ظهر لوحته كتب مونش بعض أبيات الشعر، التي ذكرها في يومياته واصفاً ما حدث له: كنتُ أسيرُ في الطريق مع صديقين لي ثم غربت الشمس، فشعرت بمسحة من الكآبة. ثم فجأة أصبحت السماء حمراء بلون الدم. فتوقَّفت وانحنيتُ على سياجٍ بجانبِ الطريق وقد غلبنى إرهاقٌ لا يوصف، ثم نظرتُ إلى السُّحب الملتهبة المعلقة مثل دمٍ وسيفٍ فوق جُرفِ البَحرِ الأزرق المائل إلى السواد في المدينة. لقد استمر صديقاي في سيرهما، لكنَّنى توقَّفت هناك أرتعشُ من الخوف، ثم سمعتُ صرخةً عاليةً أخذ صداها يتردد في الطبيعة بلا نهاية!

في أحضانِ أبٍ يُهدِّدُ بالجحيم
ماتت والدة مونش بالسلّ وهو في الخامسة من عمره، وتركت لهم رسالة وداع أخيرة تقول فيها:

الآن يا أطفالي الأعزاء، ياصغاري يا حلوين، أقول لكم وداعا، سيكون بوسع والدكم إخباركم عن كيفية الوصول إلى الفردوس أفضل مني، سأكون في انتظاركم جميعا هناك.

لكن والده الطبيب العسكريّ، الذي كان عليه أن يخبر ولده الصغير كيف يذهب للفردوس حيث والدته، أحاطه بدلاً من ذلك بتربيةٍ دينيةٍ تقوم على أساس مزاجٍ مُتعصِّبٍ وحاد وقلق دينى طهراني (بيورتاني) مع تهديدٍ مستمرٍّ بالعقابِ بالجحيم، الذي كان يُحلِّق فوق رأسه دائما من جانب ذلك الوالد. وعندما انضم مونش للمجموعة البوهيمية في أوسلو التي تتكون من الفنانين والكتاب والطلاب الذين رفضوا حياة المجتمع البرجوازيّ، وكانت تلك الأفكار غريبة جدا عن المجتمع أنذاك، جعلت والده يسخط عليه أشد السخط.

لم يتزوج إدفارد مونش، ولم يستطع أن يحرِّر نفسه من قرن الحب بالمرض والموت. فالعلاقات السويَّة -في رأيه- بين الرجل والمرأة مستحيلة لأن كلا منهما يحاول السيطرة على الآخر. وكان يشعر أن لوحاته بمثابة أطفاله، لا يحب الانفصال عنها، عاش خلال الـ 27 سنة الأخيرة من حياته في وحدة وعزلة تزداد وتتوحش.

وصف الناقد التشكيلي سالدي 1915 مونش بأنه «مُبدِّد الأحلام»، الرسام المحاصر بالفزع الذي تطلقه كل أشكال المعاناة في الحياة كما تصوره ألوانه الموحية، الرجل الذي يُهيمنُ عليه شحوبُ الرعب والانقباض. في عالمه حضورٌ خاص للبدائية الخشنة والموت المتسلل خلسة والعالم القديم والعالم الجديد، حيث تسيل دماء موضوعاته وتصرخ بصوتٍ عال معبرة عن معاناة وجودها الخاص وغموضه.
وعلى الرغم أن مونش كان ممسوساً بفنه، فإنه ليس مجرد مصور ذي طاقة إبداعية ورؤية تصويرية نقية وبسيطة وإحساس بالقيم، لكنه أيضا فنان ذو استبصار ينم عن فهم مأساوي واكتئابي آسر يخلب الألباب.


القلق الوجوديّ
تعبر لوحة الصرخة عن ذلك القلق الشخصي الذي عاناه إدفارد مونش في حياته، ثم جسده في فنه، في اللوحة يتحول الإيقاع المنحني المتقوس الذي يصرخ إلى رمز وجودي يمتزج بنفسه مع الإيقاعات الخاصة بالطبيعة، وهذه الطبيعة التى من خلال إيقاعات سماوية حمراء وبحرية زرقاء وسوداء، تبدو وكأنها جميعها، تصرخ معاً، ومعها مونش صرخة مرعبة، وكأم مونش أيضاً يصرخ ولا يصرخ، فالطبيعة تصرخ بعنف وكآبة، يصرخ ولا يصرخ وكأن صرخاته داخلية، تنم عن المعاناة والقلق والألم الشديد، وكأنها تخرج من جسده كله، من وجوده كله، فتتردد أصداؤها في ذلك الوجود الكبير المحيط به، وكأنه هو أيضاً وحده الذي يعاني، بينما يمشي أصدقاؤه في هدوء في اللوحة، خلفه غير مكترثين، وفي مذكراته كما قال، تركاه في وضعه المرعب ذلك، وسبقاه، تركاه وراءهما ومضياً.

يقول ديفيد ولكنز: من خلال صرخته، وهي صرخة طويلة ممتدة، أصبح مونش، وحده أمام الطبيعة، وأدرك أسوأ كوابيسه ومخاوفه من الأماكن الواسعة الهائلة الممتدة. لقد أصبح في مواجهة الجليل بالمعنى الذي أشار إليه بيرك وكانط.

مع صراخه يتشوَّه وجهه حتى يصبح شبيها بالجمجمة بكل دلالتها التصويرية والرمزية الخاصة بالموت والتى لا يظهر خلالها جنس الإنسان إذا كان امرأة أو رجلاً، فهذا القلق الهائل لا يفرق بينهم. سجَّل مونش صرخته في ذاكرته وجسَّدها في لوحته وجسد نفسه معها وهو يصرخ صرخته هذه التى خلد من خلالها رعب الطبيعة من الغياب وفزع الإنسان من الموت.


الصَّرخة.. موناليزا العصر الحديث
قد يرجع شهرة الصرخة لسهولة فهمها ووضوحها للجميع، خصوصاً الذين لا يتمتعون بثقافة فنية خاصة، فبمجرد رؤيتها يكون من الصعب نسيانها. واعتبر النقاد الصرخة أيقونة العصر الحديث كما كانت الموناليزا هي أيقونة عصر النهضة.
سجّلت الصرخة نقطة تحوُّل هامة في القرن العشرين، لقد قطع الإنسان كل صلاته بما كان يمنحه الارتياح في القرن التاسع عشر؛ أما الآن، فلا توجد تقاليد ولا عادات، ولا أعراف ولا ثوابت، فقط إنسان مسكين في لحظة أزمةٍ وجوديَّةٍ مهولة يواجه وحده الكون الذي لا يفهمه ولا يستطيع التواصل معه سوى بالذعر.

المثير بشأن اللوحة ليست الطريقة التي أثرت بها في الفن الحديث لاحقاً، ولكن كيف توغّلت اللوحة في الثقافة الشعبية، وأصبحت أكثر شهرةً من مونش نفسه، الكثير من الناس لا يعرفون مونش ولكن يعرفون الصرخة. جدير بالذكر أن العنوان الأول الذي أطلقه مونش على هذه اللوحة لم يكن هو “الصرخة” بل “يأس” أو “قنوط” despair.

أصبحت الصرخة أيقونة أعيد نسخها وإنتاجها في بطاقات البريد والملصقات الإعلانية وبطاقات أعياد الميلاد وسلاسل المفاتيح وأصبحت إطارا لسلسلة من الأفلام السينمائية ظهرت عام 1996 وما بعده بعنوان الصرخة أيضا. وأعاد أندي وارول رسمها مرات عديدة أخرى على طريقته عام 1984.

يوجد من اللوحة 4 نسخ مختلفة بيعت نسخة 1895 في مزادٍ علنيّ خلال أول ربع ساعة من عرضها بـ 120 مليون دولار أمريكي، وتعرضت اللوحة للسرقة من متحف مدينة أوسلو بالنرويج خلال شهر أغسطس 2004 على الرغم من وجود كاميرات تصوير متعددة ضد السرقة داخل المتحف وخارجه وأعيدت في 2006. وكانت قد سرقت من قبل أيضا سنة 1994 من متحف مونش بأوسلو وأعيدت في مايو من نفس العام.


مونش مع نيتشه ودوستويفسكي وكيركيغارد!
يقول آلان باونيس في كتابه الفن الأوربي الحديث: كان مونش صديقا للكاتب المسرحي ستريندبيرغ الذي شاركه آراؤه عن العلاقة الجنسية. وكانت واضحة أيضاً آثار صلته بسورين كيركيجارد، الفيلسوف الديني الدنماركي، وبدوستويفسكي الذي غيرت رواياته العظيمة الإحساس الأوربي في نهاية القرن التاسع عشر. وتأثر مونش كثيرا بقراءته فلسفة نيتشه، كما كان مزاجه يميل كثيراً إلى الاكتئاب. وربط البعض مُفسِّراً حالة الرعب في اللوحة أفكار مونش بأفكار نيتشه عن موت الإله وأفكار شوبنهاور عن الخوف، وأن اللوحة مُجرَّد تحدٍّ لشوبنهاور الذي قال بأن الفن الانطباعي لا يمكن أن يرسم الصرخة.

تقول رضوى عاشور عن لوحة الصرخة في سيرتها الذاتية التي تحمل نفس الاسم:

لأنّ الصرخة لوحة شهيرة فقد حظيت بكتابات كثيرة تصفها وتقرؤها وتصنف موقعها من تاريخ الفن الأوروبي الحديث، ومقدمات الحركة التعبيرية في نهاية القرن التاسع عشر، وتبحث في تفاصيلها وتربط أحيانا بين التجربة التي تنقلها وحياة مبدعها، بل وتسعى إلى تحديد موقعه الجغرافي اللحظة التي أشار إليها في يومياته، أين كان يقف وإلى أي اتجاه كان ينظر حين داهمه الخوف الشديد.. بل وذهب البعض إلى أن هذا المكان كان قريباً من مسلخ المدينة، وقد يكون الصوت جئير الحيوانات ساعة الذبح، وأنه -أعني الموقع- كان بالقرب من مصحة للأمراض العقلية، تعالج فيها أخت مونش. وربط هذا البعض بين الصرخة وأصوات المرضى المثقلين بمتاعبهم النفسية والعصبية.

وبصرف النظر عن دقة هذا الكلام أو نفعه، تبقى اللوحة على طريقة الفن، تتجاوز هذا الظرف الشخصي لتجسد تجربة دالة لشخص مفرد ينتبه فجأة إلى رهبة الوجود ووحشته وتوحُّشُه فيرتجف هلعاً وهو يلتقط صرخة أو يردِّدها.

 

 

المصدر: ساسة بوست

   
   
 
الوسوم: الصرخة - مونش - The - Scream
 
 لا يوجد تعليقات    
 
 
الاسم
البريد الالكتروني
التعليق
500حرف