يتسبب عدم توافر اللقاحات وتأخر توزيعها في عرقلة جهود السيطرة على جائحة "سارس-كوف-2"  SARS-CoV-2، ولهذا اقترح بعض العلماء تأجيل إعطاء الجرعة الثانية من اللقاحات التي تؤخذ على جرعتين؛ حتى يتسنى لعدد أكبر من البشر الحصول على الجرعة الأولى، في البدء كانت فترة الانتظار الموصى بها بين الجرعتين هي 21 يوماً في حالة لقاح "فايزر" Pfizer و28 يوماً في حالة لقاح ‎"مودرنا" Moderna، وهما اللقاحان المعتمَدان حاليّاً في الولايات المتحدة، ولكن مركز الولايات المتحدة لمكافحة الأمراض والوقاية منها قد حدّث توصياته بحيث أصبح بإمكان الأشخاص الانتظار مدةً تصل إلى 42 يوماً بين الجرعتين، في حين لا يزال المركز ينصح المواطنين بالالتزام بالجدول المعلن منذ البداية، كما يفيد الباحثون بجامعة أكسفورد -حيث تم تطوير لقاح "أسترا-زينيكا" AstraZeneca المعتمد للاستخدام في المملكة المتحدة- أنه يمكن الانتظار لفترات أطول، معلنين أن جرعتي اللقاح تكونان أكثر فاعليةً إذا ما فصلت بينهما فترة 12 أسبوعاً، وقد أعلن الباحثون هذه النتائج في ورقة بحثية نُشرت قبل خضوعها لمراجعة الأقران، إذاً فما الموقف الآن؟ ما المدة الآمنة التي يمكن أن تنقضي قبل تناول الجرعة الثانية؟ وماذا لو لم تكن الجرعة الثانية متوافرة في الوقت المحدد لها؟ تعرض "ساينتفك أمريكان" Scientific American المخاطر والفوائد المحتملة لتأخير تناوُل جرعات اللقاح.

لماذا نحتاج إلى جرعتين؟

يجري تصميم اللقاحات بحيث تخلق ذاكرةً مناعيةً تُمكّن جهازنا المناعي من التعرُّف على الأعداء الذين يريدون غزو الجسم والتصدي لهم، حتى لو لم نكن قد تعرَّضنا لهم من قبل، وتقوم معظم لقاحات "كوفيد" بحَثّ الجسم على رد الفعل هذا عن طريق إعطاء جهاز المناعة نسخاً من بروتينات فيروس كورونا المستجد ذات الشكل المدبب، والتي تجعل الفيروس يشبه التاج.

يقول توماس ديني، مدير التشغيل بمعهد ديوك للقاحات البشرية: إن اللقاحات ذات الجرعتين تهدف إلى تحقيق الفائدة القصوى؛ إذ تتولى الجرعة الأولى إطلاق الذاكرة المناعية، على حين تقوم الجرعة الثانية بتعزيزها، مضيفاً: "يمكن أن نتصور هذه العملية على هيئة منحنى"، جرعة واحدة من لقاح "فايزر" قادرة على خفض احتمال إصابة الشخص العادي بالعدوى المصاحبة بأعراض بنسبة تصل إلى 50%، أما جرعة واحدة من لقاح "مودرنا" فهي قادرة على خفض الاحتمال بنسبة 80 في المئة، ولجرعتين من أيٍّ من اللقاحين القدرة على خفض احتمال الإصابة بنسبة 95%.

لماذا يسمح مركز الولايات المتحدة لمكافحة الأمراض والوقاية منها الآن بفترة 42 يوماً بين الجرعتين من لقاحي فايزر ومودرنا؟

تقول كرستين نوردلند، المتحدثة باسم مركز الولايات المتحدة لمكافحة الأمراض والوقاية منها: إن المركز قام بتحديث توصياته المبدئية بعد أن وردت إليه بيانات تشير إلى أن إدخال بعض المرونة على عملية التطعيم قد يفيد المواطنين، وبخاصة في حالة عدم تمكُّن بعض المواطنين من العودة لتلقِّي الجرعة الثانية في الوقت المحدد، وبينما تتبنَّى المملكة المتحدة سياسة مد الفترة بين الجرعات بغرض التوسُّع في إعطاء الجرعة الأولى لعدد أكبر من المواطنين، يتيح مركز الولايات المتحدة لمكافحة الأمراض والوقاية منها هذا الإجراء بصورة اختيارية للناس، بهدف تسهيل وضع الجدول الخاص بالجرعة الثانية بالأساس، وقد جاءت عملية التطعيم بطيئةً للغاية في الولايات المتحدة، إذ لم يحصل سوى 3% من المواطنين على الجرعة الثانية من اللقاح بعد مرور شهرين من بدء التطعيم، وبينما يجتهد منتجو اللقاحات في توفيرها، يرى الخبراء ضرورة الوصول إلى بعض التسويات التي تضمن حصول المواطنين على التطعيم كاملاً، وتقول كاثرين بولنج، اختصاصية طب الأطفال في مركز ويك فوريست بابتسيت هيلث الطبي، وهي أحد أعضاء اللجنة الاستشارية لإجراءات التطعيم التابعة لمركز الولايات المتحدة لمكافحة الأمراض والوقاية منها: "علينا اتخاذ أفضل القرارات في نطاق الإمكانيات المتاحة"، مضيفةً: "لو كانت لدينا وفرة من اللقاح فربما كان المركز سيتبنى منهجاً مختلفاً عما لو كان اللقاح غير متوافر... في أي حال، لا يمكن الاستغناء عن الجرعة الثانية".

ما مقدار الحماية التي نتمتع بها حتى حلول اليوم الـ42؟

تشير نتائج التجارب التي أُجريت على لقاحي "فايزر" و"مودرنا" إلى أن المناعة ضد المرض تبدأ في الظهور بعد مرور حوالي 14 يوماً من التطعيم بالجرعة الأولى، إذ ثبت ارتفاع معدل الإصابات بين مَن تلقوا اللقاح، في حين لم يرتفع معدل الإصابات بين مَن تلقوه، كما تورد البيانات أن جرعة واحدة من أيٍّ من اللقاحين كانت قادرةً على تحقيق الحماية من الإصابة الشديدة، إذ جاءت فاعلية اللقاح في تحقيق المناعة من فيروس كوفيد بنسبة 50% (فايزر) و80% (مودرنا) كما ذكرنا من قبل، وبالرغم من أن معظم المشاركين في تجارب اللقاحات تلقوا الجرعة الثانية في اليوم 21 أو 28 فقد انتظر بعضهم حتى اليوم 42 أو لمدة أطول، ولكن عدد تلك الحالات المتطرفة جاء صغيراً جدّاً بشكل لا يسمح باستخلاص نتائج مؤكدة عن أثر تأخير الفترة بين الجرعتين؛ فعلى سبيل المثال، لم يتأخر عن أخذ الجرعة الثانية في موعدها سوى 81 شخصاً من بين 15,208 أشخاص تناولوا لقاح مودرنا (أي نسبة 0.5 % فقط).

يقول ديني: "لا نملك في الوقت الراهن قدراتٍ علميةً متطورة تجعلنا واثقين تمام الثقة بفاعلية إعطاء الجرعة المنشطة بعد 35 أو 40 يوماً"، مضيفاً: "نحن نتحرك وفقاً لمتطلبات الصحة العامة، ووفقاً لإيماننا بأن أيّاً ما كان باستطاعتنا فعله في الوقت الراهن أفضل من لا شيء".

لو كانت جرعة واحدة لا تمنح الأشخاص سوى مناعة جزئية، فهل يمكن أن يحفز ذلك ظهور سلالات متحورة لفيروس كورونا تكون أكثر خطورة؟

يرى بول بيانياز -اختصاصي الفيروسات القهقرية بجامعة روكفلر- أن هناك مخاوف حقيقية من هذا الاحتمال؛ ففي بداية الجائحة لم تكن هناك عوامل تجعل فيروس كورونا يتحور، إذ لم يكن لدى الأشخاص أجهزة مناعية محفزة ضده، وكان معظم الناس عرضةً للإصابة بالميكروب، ولكن الآن وبعد إصابة الملايين تكونت لدى البشر الأجسام المضادة التي تحفز حدوث التحورات والتي تتسبب بدورها في تعزيز قدرة الفيروس على مراوغة الأجسام المضادة، يقول بيانياز: "سوف يتحور الفيروس كرد فعل لوجود الأجسام المضادة بغض النظر عن المنهج الذي نتبناه في إعطاء اللقاح"، مضيفاً: "المسألة هي: هل سيكون لنا دورٌ في الإسراع في هذا التحور إذا أسهَمنا في خلق أعداد مهولة من الأشخاص لديهم مناعة جزئية؟".

 

مثلما يساعد توقفك عن إتمام جرعة المضاد الحيوي في تحفيز البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية داخل جسمك، فعدم حصولك على التطعيم الكامل قد يحول جسمك إلى مجال لتولّد فيروسات مقاومة للأجسام المضادة، ولكن على الجانب الآخر نجد أن تريفور بيدفورد، اختصاصي علم الأحياء الحاسوبي بمركز أبحاث فريد هاتشينسون، والذي يتتبَّع تحورات الفيروس كتب تغريدةً تقول إن وتيرة التطور لا تُحدَّد فقط بمدى ضعف الجهاز المناعي أو قوته، بل تتأثر ببساطة بعدد الفيروسات المنتشرة وسط مجموعات البشر، ومن دون إجراء التطعيم على مدى واسع فإن كَمَّ هذه الفيروسات، إلى جانب عدد السلالات المتحورة التي يمكن أن ينتج عنها فيروس أكثر شراسة، سوف تستمر في الارتفاع.

هل يمكن أن يتسبَّب طول المدة بين تلقِّي الجرعتين في زيادة فاعلية لقاح "كوفيد"؟

تلك نتيجة محتملة، ليست كل لقاحات "كوفيد" متساويةً في الفاعلية، وتتوقف فاعلية خطة التطعيم على طبيعة اللقاح، تعتمد بعض اللقاحات على قصاصات ضعيفة من مواد وراثية تُعرف باسم mRNA، وبعضها يعتمد على حامض نووي أقوى، ويستخدم بعضها الآخر شظايا البروتين، تستطيع هذه العناصر المحورية التغلغل داخل خلية مغلفة برذاذ دهني أو داخل أحد الفيروسات غير الضارة التي تصيب الشمبانزي.

وبأخذ هذه الاختلافات في الحسبان، لا يجد ديني مجالاً للدهشة في أن لقاح أسترا-زينيكا الذي أنتجته جامعة أكسفورد، والذي يعتمد على الحامض النووي قد أثبت فاعليته في تجارب كانت المدة بين الجرعتين فيها 12 أسبوعاً، وهي مدة تقدر بأكثر من ثلاثة أو أربعة أضعاف تلك الموصى بها في حالة لقاحي "مودرنا" و"فايزر" المبنيين على مادة mRNA الوراثية، ومع مرور الوقت، قد يكتشف الباحثون أن إعطاء الجرعات وفق جداول زمنية مختلفة قليلاً عن الجداول التي أُجريت عليها التجارب السريرية الأولى قد يكون أكثر فاعلية.

يقول ديني: "قد تعمل على دراسة مناهج إعطاء الجرعات لسنوات طويلة، ولكن هذا لن يكون هو الإجراء المسؤول في عالم مثل الذي نعيش فيه"، مضيفاً: "لا يجب أن تجعل سعيك نحو الكمال عقبةً أمام تحقيق الفائدة".