في عصرنا الرقمي، بات الإنسان يغوص في محيط من المعلومات، ويُبحر يومياً بين آلاف الصور، والمقاطع، والمفاهيم، والمقالات. لكنه في الوقت ذاته، ينسى أكثر مما يتذكّر. فهل فقدنا القدرة على التذكّر بفعل اعتمادنا على التقنية؟ وهل كسبنا بالمقابل نوعاً جديداً من الإدراك؟ هذه المفارقة تستحق التأمل.
تشير دراسات في علم الأعصاب والسلوك المعرفي إلى أن استخدام الإنسان للتقنية، لا سيّما الهواتف الذكية ومحركات البحث، أدى إلى تراجع في الاعتماد على الذاكرة الذاتية. فلم يعد كثير من الناس يحفظ أرقام هواتف أو تواريخ مهمة، لأنهم يعلمون أن أجهزتهم الذكية ستفعل ذلك نيابة عنهم.
يعرف هذا التغيّر في السلوك المعرفي باسم "تأثير جوجل" (Google Effect)، والذي يصف ظاهرة اعتماد الدماغ على توفر المعلومة عبر الإنترنت، ما يُضعف آلية الحفظ والاسترجاع داخلياً.
في البيئة الرقمية، تتسابق الإشعارات والتنبيهات ومقاطع الفيديو القصيرة لجذب انتباه المستخدم. هذا الانشطار المستمر في الانتباه يجعل الدماغ أقل قدرة على التركيز العميق، وبالتالي على ترسيخ المعلومات في الذاكرة طويلة الأمد.
تقول البروفيسورة "غلوريا مارك"، الباحثة في علم الإنسان الرقمي:
"الدماغ في بيئة مشتتة يصبح مُهيّئاً للسطحية، لا للتأمل العميق."
رغم هذا التراجع في التذكّر، إلا أن الإنسان في العصر الرقمي أصبح أكثر اطلاعاً واتصالاً بالعالم من أي وقت مضى. فبضغطة زر، يمكنه قراءة وثائق علمية، أو متابعة أخبار الدول، أو مشاهدة محاضرات من جامعات مرموقة.
هذا يمنحه إدراكاً أفقياً واسعاً للمعارف، لكنه في أحيان كثيرة سطحياً غير متجذّر. فالمعلومة تمرّ بسرعة ولا تُمهَل لتُهضم أو تُربط بسياقها.
لفهم الصورة الكاملة، يمكن التمييز بين ثلاثة مفاهيم رئيسية:
لقد انتقل الإنسان من أن يكون "ذاكرة بشرية" تعتمد على الحفظ، إلى أن يصبح كائناً متصلاً يعتمد على الشبكة كامتداد لدماغه. لم يعد التحدّي هو تذكّر المعلومة، بل البحث عنها، وفهمها، وتمييز الصحيح من الخاطئ.
لكن هذا لا يعني نهاية التفكير العميق أو قوة الذاكرة. بل هو دعوة لإعادة التوازن: أن نستفيد من التقنية دون أن نفقد قدرتنا البشرية على التذكّر، والتأمّل، والتحليل.
في زمن الوفرة المعلوماتية، ربما لا يكون العقل البشري بحاجة إلى حفظ كل شيء، بقدر حاجته إلى التمييز بين الجيد والسيء، وبين المعرفة السطحية والحكمة المتعمقة. فالذاكرة تضعف، لكن الإدراك يُمكن أن يزدهر إذا أُحسن استخدام التقنية لا كبديل عن التفكير، بل كأداة لتحفيزه.
Powered By Dr.Marwan Mustafa