في أحد الأسواق الشهيرة بمدينة "غوانزو" الصينية، المتخصصة في بيع المنتجات المقلدة من ساعات، ونظارات، وحقائب، وأقلام فاخرة، اشترى صديق لي قلم حبر يحمل شعار شركة "مونت بلانك" (Montblanc) الألمانية الشهيرة، بمبلغ لا يتجاوز 200 ريال سعودي. كان يعلم مسبقاً أنه يتسوق من سوقٍ يُعرف ببيع "البضائع المقلدة"، لذا لم يتوقع الكثير من الجودة، لكنه فوجئ بأن القلم يعمل بكفاءة عالية، واستمر معه قرابة عامين من الاستخدام المتكرر.
ولأن الحبر قد نفد مؤخراً، توجّه صديقي إلى الوكالة المعتمدة لمونت بلانك بغرض تعبئته، وهناك حدثت المفاجأة: فني الوكالة فحص القلم، وتحقّق من الرقم التسلسلي ومواد التصنيع، ثم عرض عليه شراؤه بمبلغ كبير، بعد أن تأكد لهم أنه أصلي بالفعل، ويصل سعره الجديد إلى نحو 1250 ريالاً. عندها ابتسم صديقي وقال: "اشتريته من سوق مقلّدات في الصين!"
● ظاهرة غير مألوفة: بضاعة أصلية في سوق مقلّدة
قد تبدو هذه القصة طريفة، لكنها ليست استثناءً نادراً في السوق الصيني. فكثير من المشترين لاحظوا أن بعض المنتجات "المقلّدة" التي يشترونها من أسواق مثل شارع سيني لو (Senyi Lu) أو منطقة باييون في غوانزو، أو حتى من متاجر إلكترونية صينية، لا تختلف إطلاقاً عن الأصل، بل أحياناً تكون الأصل نفسه.
فما الذي يحدث حقاً؟ وكيف ينتهي الأمر بمنتجات أصلية تباع بأسعار متدنية في أسواق يفترض أنها للمقلدات؟
أولاً: قنوات التهريب الخلفي (Backdoor Sales)
في عالم التصنيع، خصوصاً بالصين، تقوم الشركات العالمية بتوكيل مصانع صينية لصناعة منتجاتها بموجب عقود دقيقة. لكن في بعض الأحيان، تقوم جهات داخل هذه المصانع أو في سلسلة التوريد بتهريب جزء من الإنتاج وبيعه خارج القنوات الرسمية، في ما يُعرف بـ البيع الخلفي أو Backdoor Sales.
هذه البضائع أصلية تماماً، لكنها لا تصل إلى المستهلك عبر قنوات البيع القانونية، بل تباع سرّاً في الأسواق الرديفة بأسعار زهيدة.
ثانياً: التصريف غير الرسمي للبضائع ذات العيوب البسيطة
في بعض الحالات، تُرفض شحنات كاملة من المنتجات بسبب عيب بسيط في التغليف أو اختلاف طفيف في اللون أو الطباعة. وبدلاً من إتلاف هذه الكميات، يتم بيعها إلى تجّار الجملة بأسعار منخفضة، ومن هناك تشق طريقها إلى أسواق المقلدات. وهذه المنتجات أصلية من حيث الجوهر، لكنها لا تُعتبر "صالحة للبيع الرسمي" وفقاً لمعايير الشركة الأم.
ثالثاً: تجارة الخلط: أجزاء أصلية وأجزاء مقلدة
يتم في بعض الورش الصينية تركيب منتجات باستخدام قطع غيار أصلية وأخرى مقلدة، فينتج عنها منتج "هجيني" يصعب التمييز بينه وبين المنتج الأصلي، خصوصاً في المنتجات التي يصعب تفكيكها كالأقلام الفاخرة أو الإكسسوارات الجلدية.
رابعاً: تصدير ما لا يُصرّح به محلياً
أحياناً تُنتج المصانع كميات تفوق المطلوب، أو تُصنّع نماذج أولية لا تُطرح في السوق المحلي، ثم تُباع هذه الفوائض في الأسواق الشعبية أو تُهرّب للخارج بأسعار منخفضة.
خامساً: التلاعب في سمعة المنتج
بعض تجار المقلدات يسوّقون منتجات أصلية على أنها "تقليد ممتاز"، لكي لا يطالبهم أحد بضمان، أو لأنهم حصلوا عليها بسعر زهيد من منفذ غير رسمي، ولا يرغبون ببيعها بالسعر الرسمي. وهكذا يحصلون على هامش ربح كبير بينما يظن الزبون أنه اشترى مقلّداً عالِ الجودة.
في النهاية: من الرابح؟
-
المستهلك الذكي قد يكون أكبر المستفيد، إن عرف كيف يميز بين المنتج المقلد والمنتج الأصلي، أو إذا امتلك الحس التجاري الذي يسمح له بالمخاطرة والتجربة.
-
التاجر يربح بذكاء، سواء باع منتجاً مقلداً على أنه "نسخة أصلية بسعر مغرٍ"، أو باع منتجاً أصلياً على أنه مقلد ليتهرّب من الضمان والتبعات القانونية.
-
أما الشركة الأم، فهي الخاسر الأكبر من هذه الفوضى، إذ تُباع منتجاتها الأصلية خارج نظام التسعير والخدمة.
الخاتمة:
ما حدث مع صديقنا ليس مجرّد ضربة حظ، بل هو نافذة على واقع أكثر تعقيداً وغموضاً في تجارة البضائع العالمية، وخاصة حين تختلط خطوط الإنتاج القانونية بخيوط الأسواق الرمادية.
ففي الصين وفي بلاد أُخرى، لا تتعجّب إن اشتريت أصلاً بسعر مقلّد… بل العجيب أن تظن كل ما تشتريه هناك مقلداً!