الهروب الرياضي من الإله: عندما تصبح الصدفة ديناً جديداً
لطالما وقف الإنسان مشدوهاً أمام روعة الكون واتساق قوانينه؛ من دقة الثوابت الفيزيائية، إلى تناسق الحياة وتعقيد تركيب الخلية، إلى بزوغ الوعي البشري وظهور العقل. هذه الظواهر وغيرها دفعت كثيراً من المفكرين والعلماء إلى الإقرار بوجود "نظام" كوني، أو على الأقل، الاعتراف بأن هذا الوجود ليس مجرد فوضى عمياء. ومع ذلك، ظهرت في العقود الأخيرة فرضيات تحاول تفسير هذا التناسق المدهش من دون اللجوء إلى أي تصميم أو خالق. ومن أبرز هذه الفرضيات: "تعدد الأكوان"، والتي تحوّلت، عند بعض الدوائر العلمية، إلى ما يشبه مهرباً رياضياً من الإله.
الضبط الدقيق للكون: معضلة العقل المادي
يواجه النموذج العلمي المادي التقليدي إشكالية حقيقية في تفسير "الضبط الدقيق" (Fine-tuning) الذي يحكم ثوابت الكون. فعلى سبيل المثال، لو اختلف ثابت الجاذبية أو الكتلة الابتدائية للإلكترون أو حتى نسبة الطاقة المظلمة بنسبة ضئيلة جداً، لما نشأت النجوم، ولا الذرات، ولا الحياة.
وقد قدّر الفيزيائي روجر بنروز (Roger Penrose) احتمال أن يكون هذا التوازن الكوني قد نشأ بالصدفة بـ 1 من 10 مرفوعة للأس 10 مرفوعة للأس 123 (10¹⁰¹²³)، وهو رقم خيالي لا يمكن حتى تخيله أو إنه رقم مضاد للصدفة. يقول بنروز:
"مثل هذا الرقم خارج نطاق أي تفسير طبيعي."
لا ننسى أن العدد التقديري لذرات الكون المرئي هو حوالي 10⁸⁰ ذرة، وهو يشمل جميع أنواع الذرات (هيدروجين، هيليوم، كربون... إلخ) في النجوم، الكواكب، السحب الغازية، والمادة بين المجرات. وهذا الرقم على سعته إلا أنه أقل من احتمال حدوث الحياة بكثير.
تعدد الأكوان: فكرة تفتقر إلى البرهان
للهروب من هذا الاستنتاج، ظهر اقتراح يُعرف بـ "تعدد الأكوان" (Multiverse)، يفترض أن هناك عدداً غير متناهٍ من الأكوان، كل منها بثوابت فيزيائية مختلفة، و"نحن فقط في الكون الذي صادف أن يكون مناسباً للحياة". لكن هذا التفسير، رغم جاذبيته لدى البعض، يفتقر إلى أبسط متطلبات العلم: الاختبار والتجريب.
وقد عبّر الفيزيائي البريطاني جورج إليس (George F. R. Ellis) عن هذا بوضوح حين قال:
"العديد من نماذج الأكوان المتعددة ليست علماً، لأنها لا يمكن اختبارها أو نفيها."
الإنكار المادي المباشر: المادة كإله بديل
إلى جانب فرضية تعدد الأكوان، هناك تيار مادي يرفض فكرة وجود إله دون اللجوء إلى أي سيناريوهات خيالية مثل الأكوان المتعددة. هذا التيار يكتفي بالمادة وحدها تفسيراً للوجود، ويرى أن العقل والوعي والحياة نفسها ليست إلا نتائج عرضية لتفاعلات كيميائية وفيزيائية عمياء.
ريتشارد دوكنز، في كتابه "وهم الإله" (The God Delusion)، يجادل بأن الطبيعة، رغم تعقيدها، لا تحتاج إلى مصمم، وأن الانتخاب الطبيعي قادر وحده على إنتاج الكائنات المعقدة.
لكن هذا الطرح يواجه صعوبة حقيقية في تفسير:
-
نشأة الحياة الأولى من المادة غير الحية (Abiogenesis)
-
ظهور الوعي والإدراك الذاتي
-
القيم الأخلاقية والمعنى والغائية
وقد عبّر الفيلسوف الأمريكي ألفين بلانتينغا (Alvin Plantinga) عن هذا الإشكال بقوله:
"إذا كان العقل نتاجاً غير موجه لتفاعلات كيميائية، فما الضمان أن يكون ما نعتقده عن العالم صحيحاً؟"
الهروب الرياضي: حين تصبح المعادلات ستاراً للفلسفة
الاستناد إلى الرياضيات والاحتمالات في تفسير وجودنا ليس مشكلة بحد ذاته، لكن تحويل هذه الأدوات إلى عقيدة فلسفية جديدة تُقصي فكرة الإله وتعتبر الصدفة بديلاً موضوعياً عنها، هو ما يُعرف مجازاً بـ "الهروب الرياضي من الإله". إنها محاولة لتغطية فراغ فلسفي هائل باستخدام لغة رياضية معقدة لا تخضع للتجربة أو الرصد.
يقول الفيلسوف توماس نيجل (Thomas Nagel)، وهو لا يُعد من المؤمنين، في كتابه "العقل والكون":
"أعتقد أن مشكلة العالم الحديث ليست في كثرة الدين، بل في القبول غير النقدي لمذهب مادي لا يفسّر شيئاً."
الإيمان والاحتمال: أيهما أقرب للعقل؟
قد يرى البعض أن الإيمان بإله خالق أمر غير علمي، لكن السؤال الحقيقي هو: هل الإيمان بأن مليارات الظواهر الدقيقة والمعقدة حدثت بمحض المصادفة هو الحل العقلاني البديل؟ ألا تصبح الصدفة، في هذه الحالة، عقيدة تتطلب إيماناً أعظم؟
الفيزيائي فريد هويل (Fred Hoyle) قال:
"الاعتقاد بأن الحياة نشأت صدفة من مادة غير حية يشبه الإيمان بأن إعصاراً ضرب ساحة خردة فكوّن طائرة بوينغ 747."
خاتمة: العودة إلى التأمل بدل الإنكار
لا مشكلة في البحث العلمي، ولا في استخدام الاحتمال والنماذج الرياضية. لكن حين تُستخدم هذه النماذج كأدوات لتبرير رفض الإيمان أو نفي التصميم، فإننا نكون قد خرجنا من ساحة العلم إلى ميدان الفلسفة المبطنة.
ولعل أجمل ما يمكن أن يُقال هنا: أن الاعتراف بالعجز أمام عظمة الخلق لا يُعدّ ضعفاً، بل نوعاً من التواضع العقلي أمام كونٍ لا يزال يخفي أكثر مما يُظهر.
المراجع المستخدمة ضمن السياق:
-
Roger Penrose, "The Road to Reality"
-
Fred Hoyle, على لسانه في محاضراته الشهيرة
-
Thomas Nagel, "Mind and Cosmos"
-
George F. R. Ellis, "Does the Multiverse Really Exist?" (Scientific American)
-
Richard Dawkins, "The God Delusion"
-
Alvin Plantinga, "Where the Conflict Really Lies"